فصل: (فرع: بيع المسك)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة: بيع الغائب]

ولا يجوز بيع العين الغائبة إذا جهل جنسها أو نوعها، بأن يقول: بعتك ما في هذا الجراب، أو بعتك ما في كمي، أو ما في بيتي.
وقال أبو حنيفة: (يصح بيع العين الحاضرة المشار إليها وإن كانت غير مشاهدة، ولا يفتقر إلى ذكر الجنس، وإن كانت غائبة.. صح بيعها إذا ذكر الجنس).
دليلنا: ما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الغرر».
و(الغرر): ما خفي على الإنسان أمره، وانطوت عليه عاقبته، ولهذا روى عن رؤبة بن العجاج: أنه اشترى ثوبًا من بزَّاز، فقال له: اطوه على غرِّه، أي: على طيِّه.
وقالت عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - في وصف أبيها: (فردٌ نشر الإسلام على غرِّه)، أي: على طيِّه. وهذا المعنى موجودٌ في بيع ما جهل جنسه أو نوعه.
فأما إذا ذكر الجنس والنوع، بأن قال: بعتك الثوب المروي الذي في كمي، أو عبدي الزِّنجي، فإن كان لا يملك عبدًا زنجيًّا غيره.. كفاه، وإن كان يملك عبدًا زنجيًّا غيره، فقال: عبدي الزنجي الذي في داري.. نظرت:
فإن كان البائع قد نظر المبيع، ولم يره المشتري.. فلا خلاف بين أصحابنا أنها على قولين:
أحدهما: يصح البيع، وبه قال الحسن، والشعبي، والنخعي، والأوزاعي؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من اشترى شيئًا لم يره.. فله الخيار إذا رآه». وروي: (أن عثمان بن عفّان، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما تناقلا بدارين، إحداهما بالمدينة، والأخرى بالكوفة، فقيل لعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قد غبنت، فقال: لا أبالي، لي الخيار إذا رأيت، فتحاكما إلى جبير بن مطعم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقضى بصحة البيع، وجعل الخيار لعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -).
ولأنه عقد معاوضة، فلم يفسده عدم الرؤية، كالنكاح.
والثاني: لا يصح البيع، وهو قول الحكم، وحمّاد، وهو الصحيح؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الغرر»، ولأنه مبيع مجهول الصفة عند العاقد حال العقد، فلم يصح، كما لو قال: بعتك ثوب خز.. فلا خلاف أنه لا يصح.
ومن قال بهذا: قال بحديث أبي هريرة: «من اشترى شيئا لم يره.. فهو بالخيار إذا رآه». رواه عمر بن إبراهيم بن خالد، وكان كذّابًا. وقيل: رواه مجاهد، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلا.
وإن صح.. فمعنى قوله: «لم يره" أي: حال العقد وكان قد رآه قبل ذلك. وقيل: أراد: «إذا رآه" في أن يعقد عليه بعد الرؤية، وكذلك حديث عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، معناه: لا أبالي، لي الخيار إذا رأيتها متغيرة عما كنت رأيتها.
فأما إذا كان البائع والمشتري لم ينظرا جميعًا إلى المبيع: فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان، كالأولى. قال ابن الصباغ: وهو المشهور في المذهب؛ لأنّ حكم البائع حكم المشتري في ذلك.
ومنهم من قال: يبطل البيع هاهنا، قولاً واحدًا؛ لأن البائع إذا لم يشاهد المبيع.. فإنما يصفه عن صفة، لا عن مشاهدة، وبيع العين بصفة عن صفة لا يصح، ألا ترى أن الأعمى لا يصح بيعه لما لم يره؛ لأنه يصف المبيع عن صفة، لا عن مشاهدةٍ؟! ولأن البائع إذا كان قد شاهد المبيع، ولم يشاهده المشتري.. قل الغرر، وإذا لم يشاهده واحدٌ منهما.. كثر الغرر.
فأمّا إذا كان المشتري قد شاهد المبيع، ولم يشاهده البائع:
فمن قال في التي قبلها: إذا لم يشاهده البائع ولا المشتري، إنها على قولين.. فإنه لا يجعل لرؤية البائع تأثيرًا، فيصح البيع هاهنا، قولاً واحدًا.
ومن قال في التي قبلها: إن البيع يبطل، قولا واحدا.. جعل لرؤية البائع هاهنا تأثيرًا، فيجعل هذه على قولين.
فأمّا إذا قلنا: لا يصح بيع خيار الرؤية.. فلا تفريع عليه، وإذا قلنا: يصح.. فلا بد من ذكر الجنس والنوع، وهل يحتاج إلى ذكر غيرهما من الصفات؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها ـ وهو قول أبي علي في "الإفصاح" ـ: أنه لا بد من أن يذكر جميع صفاته، كالمسلم فيه.
والثاني ـ وهو قول القاضي أبي حامد ـ: أنه لا بد من وصفه بمعظم الصفات، وإن لم يأت بالجميع؛ لأن الاعتماد على الرؤية.
والثالث ـ وهو المنصوص ـ: (أنه يكفي ذكر الجنس والنوع)؛ لأن المعتمد في هذا البيع على الرؤية، لا على الصفة.
فإذا قلنا بهذا: فوصف المبيع بصفة المسلم فيه، أو ثبت عند وصفه بخبر التواتر.. ففيه طريقان، حكاهما في "الإبانة" [ق\232]:
الأول: من أصحابنا من قال: هو كالمرئي، فيصح بيعه، قولا واحدا.
والثاني: منهم من قال: هي على قولين، كالأولى.
إذا ثبت هذا: فإن وصف له البائع المبيع بصفات، وقلنا: لا بد من ذكرها، أو قلنا: لا يفتقر إلى ذكرها، لكنه قد وصفه بذلك، فوجده المشتري أنقص من تلك الصفة.. ثبت له الخيار؛ لأنه أنقص مما وصف له، فثبت له الخيار، كالمسلم فيه إذا أتى به على خلاف الوصف، وإن وجده على ما وصف له، أو أعلى منها.. فهل يثبت له الخيار؟ فيه وجهان:
أحدُهما: لا خيار له، وهو قول أبي حنيفة؛ لأنه وجده على ما وصف له، فلم يثبت له الخيار، كالمسلم فيه.
والثاني: يثبت له الخيار، وهو المنصوص عليه؛ لأن هذا البيع يختص باسم بيع خيار الرؤية، بلا خلاف بين أهل العلم، فلم يخل من الخيار.
وإذا ثبت له الخيار.. فهل يكون على الفور؟ فيه وجهان:
أحدُهما: أنه على الفور، فإن فسخ، وإلا لزمه البيع؛ لأنه خيار يتعلق بمشاهدة المبيع، فكان على الفور، كخيار الردّ بالعيب، فإنه يتعلق بمشاهدة العيب.
والثاني: يتقدر بالمجلس بعد الرؤية؛ لأنه خيار ثبت بمقتضى العقد، فكان مقدرًا بالمجلس، كخيار المجلس. فإن اختار إمضاء البيع قبل الرؤية.. لم يصح؛ لأن الخيار متعلق بالرؤية، ولأنه يؤدي إلى أن يلزمه المبيع، وهو مجهول الصفة، وإن فسخ البيع قبل الرؤية.. صح الفسخ؛ لأن الفسخ يصح في المجهول.
وإذا باع ما رآه البائع، ولم يره المشتري.. فهل يثبت الخيار للبائع؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ، والطبري:
أحدهما: يثبت له؛ لأنه خيارٌ ثبت بمطلق العقد، فاشترك فيه البائع والمشتري، كخيار المجلس.
والثاني: لا يثبت له، وهو المنصوص للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في (الصرف)؛ لأنه أحد المتبايعين، فلا يثبت له خيار الرؤية مع تقدم الرؤية، كالمشتري.
وأمّا إذا كان البائع لم يشاهد المبيع، وباع، وقلنا: يصح بيعه.. فهل يثبت له الخيار إذا رأى المبيع؟ فيه وجهان:
أحدُهما ـ وهو قول القفّال، وأبي حنيفة ـ: أنه لا يثبت للبائع الخيار؛ لأنا لو أثبتنا له الخيار.. لكنَّا قد أثبتنا له الخيار لتوهم الزيادة، والزيادة في المبيع لا تثبت الخيار، ألا ترى أنه لو باع شيئًا على أنه معيب، فبان أنه غير معيب.. لم يثبت له الخيار، ولو اشترى شيئًا على أنه غير معيب، فبان معيبًا.. ثبت له الخيار؟ ! والثاني ـ وهو قول الشيخ أبي حامد ـ: أنه يثبت للبائع الخيار؛ لأنه جاهل بصفة المعقود عليه، فأشبه المشتري، ولأن الخيار لا يتعلق بالزيادة والنقصان، ألا ترى أن المشتري لو قال: هو فوق ما طلبته، ولكن قد اخترت الفسخ.. جاز الفسخ؟!
إذا ثبت هذا: فإن كان المشتري قد رآه، دون البائع، وقلنا: يثبت الخيارُ للبائع.. فهل يثبت الخيار للمشتري معه؟ يحتمل الوجهين في ثبوت الخيار للبائع مع تقدم رؤيته له، وقد مضى توجيههما.

.[فرع: يصح البيع إذا رأى المبيع ولو غاب]

وأما إذا رأيا المبيع، ثم غاب عنهما، وعقدا عليه البيع.. فالمنصوص: (أنه يصح البيع).
وقال أبو القاسم الأنماطي: لا يصح، وهو قول الحكم، وحمّاد؛ لأن الرؤية شرطٌ في صحة العقد، فلم تتقدم على حال العقد، كالشهادة في النكاح.
ووجه المنصوص: أن الرؤية إنما تراد؛ ليصير المبيع معلومًا عندهما، وهذا المعنى موجودٌ وإن تقدمت الرؤية على حال العقد، وتخالف الشهادة في النكاح؛ لأنها تراد ليثبت الفراش بالعقد، فلم يجز أن يتقدم على العقد.
إذا ثبت هذا: فإن كان المبيع لا ينقص، ولا يتلف على طول الزمان، كالحديد والرصاص والنحاس وما أشبه ذلك، وكانا قد شاهداه، ثم عقدا عليه البيع، ثم شاهداه، فإن كان على صفته الأولى.. فلا خيار للمشتري، وإن كان قد تغير ونقص عما كان عليه.. ثبت للمشتري الخيارُ؛ لأنه ناقص عما كان رآه، وإن اختلفا: هل تغير، أم لا؟ قال الشافعي: (فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأن الثمن ينتزع منه، فلا يجوز إلا بقوله).
وإن كان المبيع لا يبقى على طول الزمان، مثل: الهريس والطبيخ والبطيخ، وكان قد مضى من حين المشاهدة إلى حين العقد مدة يتلف فيها.. فالبيع باطل؛ لأنه غرر. وإن مضى عليه مدة قد يتلف فيها وقد لا يتلف، أو كان المبيع حيوانا.. ففيه وجهان:
أحدهما من أصحابنا من قال: لا يصح البيع؛ لأنه يجوز أن يكون قد تلف، أو تغير، فصار مجهولاً، وبيع المجهول لا يصح.
والثاني ـ وهو المنصوص ـ: (أن البيع صحيح)؛ لأن الظاهر منه السلامة.

.[فرع: بيع الغائب الموصوف مضمون]

قال الشافعي في (الصرف): (ولا يجوز له أن يبتاع عينًا غائبة بصفة مضمونة، ولا إلى أجل، ويجوز بالنقد والدين).
وأراد بقوله: (بيع عين غائبة بصفة): هو أن قول: بعتك عبدي، وصفته كذا وكذا، فإن سلم.. لك ذلك، وإلا.. فلك بدله. فهذا لا يجوز؛ لأن العقد تعلق بعين المبيع. وإذا تلف المبيع قبل القبض.. بطل البيع، فإذا شرط له البدل.. فقد شرط ما ينافي مقتضى العقد، فأبطله.
وأما قوله: (ولا إلى أجل) فأراد: إذا قال: بعتك عبدي على أن أسلمه إليك إلى شهر، فلا يصح؛ لأنه شرط تأخير القبض في العين، فلم يصح.

.[فرع: شراء ما لم يكمل صنعه]

قال في (الصرف): (إذا ابتاع ثوبًا على منسج حائك، على أن يتمه.. لم يصح البيع).
وهذا كما قال، إذا اشترى ثوبًا من نسَّاج، قد نسج بعضه على أن يتممه.. لم يصح البيع؛ لأن بعضه بيع عين حاضرة، لا خيار له فيها، وبعضه في الذمة مجهولٌ، وإنما هو مقدر بما يحتاج إليه السدى، فلم يصح، فلو كان الغزل الباقي معينًا.. لكان قد شرط معه العمل، فلم يصحّ؛ لأنه سلم في عين، والسلم في عين معينة لا يصح.

.[مسألة: بيع الأعمى]

إذا باع الأعمى عينًا، قد كان رآها قبل العمى، أو اشتراها، فإن كانت العين مما لا يتغير، كالحديد والرصاص.. صح العقد، ويوكل من يقبض له، على الصفة التي قد كان شاهدها عليها، فإن كانت على صفتها الأولى.. فلا خيار له، وإن تغيرت عن صفتها الأولى.. فله الخيار.
وإن كانت العين مما يتلف من الوقت الذي شاهدها إلى حين العمى، كالطعام الرطب.. بطل البيع.
وإن كان الأعمى لم يشاهد العين المبيعة، بأن كان أكمه: وهو الذي خلق أعمى، أو كان قد خلق بصيرًا، إلاَّ أنه يشاهد العين المبيعة قبل العمى، فإن قلنا: إن بيع خيار الرؤية لا يصح.. لم يصح البيع هاهنا. وإن قلنا: إن بيع خيار الرؤية يصح.. فهل يصح بيع الأعمى وشراؤه؟ في وجهان:
أحدهما: يصح، ويوكل من يقبض له المبيع إذا وجده على الصفة المشروطة، ويفوض إليه الفسخ والإجازة إذا رأى.
وهكذا: البصير إذا اشترى عينًا غائبةً.. فله أن يوكل من يشاهدها، ويستنيبه في الخيار والقبض.
والثاني: لا يصح؛ لأنه لم يشاهد المبيع، ولا يصح التوكيل في هذا الخيار؛ لأن هذا خيار عقد، فلم تصح الاستنابة فيه، كخيار المجلس.
وهذا القائل يقول: لا يصح توكيل البصير لغيره في مشاهدة العين المبيعة في بيع خيار الرؤية، والفسخ، والإجارة عند ذلك؛ لهذه العلة.
والقائل الأول قال: يجوز. وهذا مذهبنا. وقال مالكٌ، وأبو حنيفة، وأحمد: (يجوز بيع الأعمى وشراؤه، في العين التي لم يرها قبل العمى). وأثبت له أبو حنيفة الخيار إلى معرفته بالمبيع، إما بأن يجسه أو يذوقه، أو يشمه، أو بأن يوصف له.
دليلنا عليهم: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الغرر». وهذا غررٌ؛ لأنه لا يدري ما باع، ولا ما اشترى.

.[مسألة: رؤية بعض المشترى]

إذا رأى بعض المبيع دون بعض، فإن كان لا تختلف أجزاؤه، كالصبرة من الطعام، والجرة من السمن والدبس، إذا رأى رأسها.. صح بيعه؛ لأن أجزاءه متساوية، والظاهر أن باطنه كظاهره. وإن كان مما تختلف أجزاؤه، فإن كان يشق رؤية باطنه، كأساس الدور، والجوز في القشر الأسفل.. صح بيعه؛ لأنه يشق رؤية
باطنه. وإن لم يشق رؤية باطنه، كالثوب المطوي.. ففيه طريقان:
الأول: من أصحابنا من قال: هي على قولين، كبيع خيار الرؤية، وهو المنصوص للشافعي.
والثاني: منهم من قال: يبطل البيع، قولا واحدًا؛ لأن ما رآه لا خيار له فيه، وما لم يره يثبت له فيه الخيار، وذلك لا يجوز في عين واحدة.
وهذا غلط، بل يثبت له الخيار في جميعه إذا رأى ما لم يره، ولا يمتنع ثبوت الخيار في جميع المبيع؛ لجهل شيء منه، ألا ترى أنه إذا ابتاع عينًا، وشاهدها إلا موضع العيب، ثم علم بالعيب.. يثبت له الخيار في الجميع؟!

.[فرع: بيع ما دل بعضه على جميعه]

قال الصيمري: وإذا رأى رأس التمر في القوصرة، فاشتراه ـ وهو في القوصرة ـ فالصحيح: أنه يجوز للضرورة، وقيل: هي على قولين.
وأما القطن في القفاع والأعدال: ففيه قولان:
أحدهما: لا يجوز إلا بعد الإحاطة بجميعه.
قال الصيمري: والأشبه عندي: أنه كالتمر في القوصرة.

.[مسألة: بيع تراب المعدن الثمين]

لا يجوز بيع تراب الصاغة، وتراب المعادن.
وقال الحسن، والنخعي، وربيعة، والليث - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: (يجوز بيع تراب الفضة بالذهب، وبيع تراب الذهب بالفضة).
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يجوز بيع تراب المعدن بما يخالفه بالوزن إن كان ذهبا يدًا بيد، أو بعوض إلى أجل، ولا يجوز بيع تراب الصاغة بحال).
دليلنا: أن المقصود مستور بما لا مصلحة له فيه في العادة، فلم يصح بيعه، كبيع اللحم في الجلد بعد الذبح، وكتراب الصاغة على مالك.

.[مسألة: بيع البقول في قشرها]

وفي جواز بيع الباقلاء في قشره وجهان:
أحدهما قال أبو سعيد الإصطخري: يجوز؛ لأنه يباع في جميع البلدان من غير إنكار.
والثاني: لا يجوز، وهو المنصوص؛ لأن الحب قد يكون صغارًا، وقد يكون كبارًا، وقد يكون متغيرًا، وذلك غرر من غير حاجة، فلم يجز.

.[فرع: بيع المسك]

وأما المسك: فهو طاهر، ويجوز بيعه. وقال بعض الناس: هو نجس، ولا يجوز بيعه؛ لأنه ينفصل من حيوان. وقيل: إنه دم.
دليلنا على أنه طاهر: ما روي «عن عائشة أم المؤمنين: أنها قالت: رأيت وبيص المسك في مفرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ثلاث من إحرامه»
وروي: أنها قالت: «طيبت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأطيب الطيب، وهو المسك» وروي: (أن عليًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أمر أن يجعل في حنوطه مسك، وقال: هو بقية حنوط رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -).
وقولهم: إنه من حيوان، قيل: إن الغزلان تلقيه، كما تلقي الولد، ويلقي الطير البيض، والغزلان مأكولة، وإن كان من حيوان غير مأكول.. فيجوز أن يكون طاهرًا، ألا ترى أن العسل من حيوان غير مأكول، وهو طاهر؟!
وأما الدليل على جواز بيعه: فما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أهدى إلى النجاشي أواقي مسك، فلما تزوج بأم سلمة.. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إني أهديت إلى النجاشي حلة وأواقي مسك، وإنه يموت قبل أن يصل إليه، فإذا ردت علي.. أعطيتك منه". فمات قبل أن يصل إليه، فرُدَّت، فأعطاها منه، وأعطى غيرها من نسائه».
فإذا جازت هديَّتُهُ.. جاز بيعه، كسائر المملوكات.
إذا ثبت هذا: فإن أخرج المسك من فأرته، وباعه.. صح بيعه، وإن فتحها ونظر إلى المسك، وباعه.. صح بيعه، كما قلنا في السمن في الظرف، وإن باع المسك في الفأرة قبل أن يفتحها.. فوجهان:
أحدهما قال أبو العباس: يصح؛ لأن بقاءه فيها له مصلحة؛ لأنها تحفظ عليه رطوبته وذكاء رائحته، فهو بمنزلة بيع الجوز واللوز والرمان في قشره.
والثاني: لا يصح، وهو المنصوص؛ لأنه مجهول القدر، مجهول الصفة، فلم يصح، ولأنه يبقى بعد خروجه من وعائه، وتبقى رائحته، فلم يجز بيعه مستورًا بوعائه، كالدر في الصدف، ويخالف الجوز واللوز والرّمان؛ لأنه بعد إخراجه من ظرفه لا يبقى.

.[فرع: بيع الطلع]

وإن أفرد طلع النخل بالبيع على رؤوس النخل بشرط القطع، قبل أن يتشقق، أو بيع مقطوعًا على وجه الأرض.. فهل يصح بيعه؟ فيه وجهان:
أحدهما: قال أبو إسحاق: لا يصح؛ لأن المقصود منه مستورٌ بما لا مصلحة له فيه، فلم يصح، كالتمر في الجراب.
والثاني: قال أبو علي بن أبي هريرة: يصح، وهو الصحيح؛ لأن طلع النخل يؤكل ظاهره وباطنه، فهو كالتفاح والكُمَّثرى.

.[فرع: بيع الزروع في السنابل]

وأما السنبل: فإن كان الحب ظاهرًا، قال ابن الصباغ: وذلك كالشعير والذرة.. فيجوز بيعه في سنبله؛ لأنه معلومٌ بالمشاهدة، فهو كبيع الصبرة التي لا يعرف كيلها.
وأما الحنطة في سنبلها: قال الشيخ أبو حامد: فإن باع الحنطة دون سنبلها.. لم يصح بيعها، قولاً واحدًا؛ لأن ذلك مجهولٌ.
قال الصيمري: وهكذا إذا باع الحنطة في التبن بعد الدياس.. لم يصح، قولا واحدًا؛ لأن ذلك مجهول.
وإن باع الحنطة مع سنبلها قبل الدياس.. فهل يصح؟ فيه قولان:
قال في القديم: (يجوز). وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الحب حتى يشتد»، ولأنه مستور بما هو من أصل الخلقة، فأشبه الرُّمان.
وقال في الجديد: (لا يصح)؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الغرر». وهذا غرر لا محالة. ولأنه مستورٌ بما لا مصلحة له فيه، فلم يصح بيعه فيه، كتراب الصاغة.
وأما بيع الأرز مع سنبله: فاختلف أصحابنا فيه:
فذكر ابن القاص، وأبو علي الطبري: أنه بمنزلة الشعير؛ لأنه يدخر في قشره، وبقاؤه فيه من مصلحته. واختار هذا القاضي أبو الطيب.
وقال الشيخ أبو حامد في "التعليق": هو كالحنطة.
قال ابن الصباغ: وهذا موقوف على العادة في ذلك، والعادة ادّخاره في قشره.

.[مسألة: بيع الصبرة]

إذا قال: بعتك هذه الصبرة.. صح البيع؛ لأنها معلومةٌ بالمشاهدة، ولأن الصبرة تتساوى أجزاؤها، بخلاف ما لو اشترى ثوبًا، رأى أحد جانبيه، أو رآه مطويًّا.. لم يصح بيعه على الأصح؛ لأن الغالب أنه يختلف؛ لأنه قد يكون أحد جانبيه مقصورًا، أو أغلظ، أو أحد طرفيه أعرض. وهل يكره بيع الصبرة جزافًا؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يكره؛ لأنها معلومةٌ بالمشاهدة.
والثاني: يكره؛ لأنه ربما قدرها المشتري بنفسه أكثر من كيلها، وفي ذلك ضرب من الغرر.
إذا ثبت هذا: ففيها عشر مسائل.
إحداهن: إذا باعها جزافا.. فقد قلنا: يصح البيع وإن لم يذكر كيلها، سواء علم البائع قدر كيلها أو لم يعلم.
وقال مالك: (إذا كان البائع يعلم قدر كيلها.. لم يصح بيعها حتى يبينه).
دليلنا: أنه شاهد المبيع، فلم يفتقر إلى ذكر كيله، كما لو لم يعلمه البائع.
الثانية: إذا قال: بعتك هذه الصبرة، كل قفيز بدرهم.. صح البيع، وبه قال مالك، وأحمد، وأبو يوسف، ومحمد.
وقال أبو حنيفة: (يصح البيع في قفيز واحد دون الباقي).
دليلنا: أن ثمن كل قفيز معلوم، وجملتها معلومة بالمشاهدة، فإذا كالها عرف قدر الثمن، فصح، كما لو قال في المرابحة: بعتكه برأس مالي فيه، وهو كذا وكذا، والربح درهمٌ في كل عشرة.. فإنه يصح.
الثالثة: إذا قال: بعتك عشرة أقفزة من هذه الصبرة، وهما يعلمان أنها أكثر من ذلك.. صح البيع. وقال داود: (لا يصح).
دليلنا: أنه باع مقدارًا معلومًا من جملة يصح بيعها، فأشبه إذا باع نصفها. وإن اختلفا من أي موضع يعطيه منها فالخيار إلى البائع؛ لأنه أعطاه منها. فإن هلكت الصبرة إلا قدر المبيع.. قال الطبري في "العدة": لم يجب على البائع تسليم الباقي منها.
وقال أبو حنيفة: (يجب عليه).
دليلنا: أن المشتري صار شريكًا للبائع في قدر المبيع، فما تلف منها.. تلف على شركتهما، كما لو ورثا منها عشرة أقفزة، ثم هلكت إلا عشرة أقفزة.
الرابعة: إذا قال: بعتك نصف هذه الصبرة أو ثلثها أو ربعها، أو بعتكها إلا ثلثها، أو إلا ربعها.. صح البيع؛ لأن المبيع معلوم.
الخامسة: إذا قال: بعتك من هذه الصبرة، كل قفيز بدرهم.. لم يصح البيع؛
لأن مِنْ: للتبعيض، وكلا: للعدد، فيكون ذلك العدد مجهولاً منها، فلم يصح.
وكذا: لو قال: بعتك بعض هذه الصبرة.. لم يصح؛ لأن ذلك يقع على القليل والكثير، فلم يصح.
السادسة: إذا قال بعتك هذه الصبرة، كل إردب بدرهم، على أن أزيدك إردبًّا.. فالبيع باطل؛ لأنه إن أراد بذلك: زيادة من غير هذه الصبرة، فإن قصد بذلك الهبة.. فقد شرط عقدًا في عقد، وذلك لا يجوز، وإن قصد بذلك أنه مبيع.. فهو مجهولٌ، ولو كان معلومًا.. لم يجز أيضا؛ لأن ذلك يؤدي إلى جهالة بالثمن في التفصيل؛ لأنه إذا زاده إردبًّا بغير ثمن.. فقد صار إردبًّا وشيئًا بدرهم؛ لأن جملة الصبرة لا يعلمان كيلها. وإن أراد: أنه يزيده إردبًّا منها، فكأنه لا يحتسب عليه بثمنه.. فقد فسد؛ للجهالة التي ذكرناها.
السابعة: إذا قال: بعتك هذه الصبرة، كل إردب بدرهم، على أن أنقصك إردبًّا، وهما لا يعلمان قدرها.. لم يصح البيع؛ لأن معنى ذلك: على أن أحسب عليك ثم إردب، ولا أدفعه لك، فلم يصح؛ لأنه يكون بيع إردب بدرهم وشيء مجهول، والإردب: مكيالٌ بمصر يسع أربعة وعشرين صاعًا.
الثامنة: إذا قال: بعتك هذه الصبرة، كل إردب بدرهم، على أن أزيدك إردبًا، أو أنقصك إردبًا.. فلا يصح البيع؛ لأنه لا يدري، أيزيدُهُ، أم ينقصه؟
التاسعة: إذا قال: بعتك هذه الصبرة، وهي عشرة أرادب، كل إردب بدرهم، على أن أزيدك إردبًّا، فإن أراد بذلك الزيادة من غيرها، وأطلق.. لم يصح لجهالته.
وإن أراد به زيادة منها، كأنه لا يحتسب عليه ثمن واحد منها، أو أراد الزيادة من غيرها، وعيَّنه.. صح البيع؛ لأنهما إذا علما جملة الصبرة.. كان ما ينقص من الثمن معلومًا بزيادة الإردب.
العاشرة: إذا قال: بعتك هذه الصبرة، وهي عشرة أرادب، كل إردب بدرهم، على أن أنقصك إردبًا.. جاز؛ لأنه باعه تسعة أرادب بعشرة دراهم.